فن الرسم
فن الرسم ليس تصويراً للواقع لكنه انعكاس عنه ومساحة اللوحة لاتمثل عالم الشكل وأنما أبعاده المبعثرة في الألوان والخطوط ومساحة التضليل والبياض التي تخفي بين طياتها الضوء المسلط على الشكل لإبراز معالمه وقراءة تفاصيله وملامحه الغارقة في بحر البياض ذاته. وفن الرسم ليس مهمته نسخ الواقع ليكون مطابقاً للأصل وأنما مهمته تحفيز الناظر وسبر ثقافته لإيجاد صلات ووشائج مع اللوحة والواقع، فالرؤى تختلف باختلاف مستوى ثقافة الناظر وزاوية النظر تعكس رؤية وشكل جديد. والرسام يبتهج حين تتعدد الرؤى والقراءة لتفاصيل عمله الإبداعي ويرفض الإفصاح عن أسرار وأهداف عمله الإبداعي، لأن مهنته كرسام صناعة الألغاز للفوز بالحلول المتعددة التي يقدمها الجمهور. يعتقد ((سولا جيس))"أن فن الرسم ليس انعكاس مباشر للواقع، لأن الواقع تعكسه ثقافة الناظر". وإن كان فن التصوير انعكاس مباشر للواقع فإن فن الرسم انعكاس غير مباشر عنه، فمسعاه الأساس إبراز الأبعاد الخفية للواقع التي تكون غير مرئية للناظر. فقد يركز الرسام على عمق الحزن في الوجه أو أبعاد السعادة أو آثار الزمن الناخرة لمساحة الوجه أو الجمال الكامن في المساحات غير الظاهرة من الجسد. إنه مسعى لفك ألغاز وأبجدية تفاصيل الواقع غير المرئي لجعلها تفاصيل مرئية تحفز أحاسيس ومشاعر الناظر على قراءة تفاصيل الجمال الحقيقة للواقع غير المرئي. تعبر ((تريستان كوريبير)) عن ذلك قائلةً:"ينبغي أن نرسم ما لانراه ولن نراه أبداً". الرسام-الفنان يجب أن يكون مرهف الحس، يمتلك عينان كعيون الصقر يلتقط تفاصيل الجمال بسرعة البرق ويحس به، ليعكسه إحساساً في عمله الإبداعي. والرسام لايرسم بيده، وأنما بروحه وقلمه الذي يمثل أحد مجسات روحه التي تخط أحاسيسه ومشاعره. وريشته ليست أداة للتلوين، وأنما مجساً لعكس ترددات الروح فهي تضرب بوحي ترددات الروح المتحسسة لتفاصيل الجمال، لأنها تستمد أحكامها في التلوين من عوالم كونية جسدت الجمال في الواقع غير المرئي. يقول ((روسكن))"أن روح الشرير لاتقدر أن تفهم الجمال والكمال، الروح الحية، الطاهرة والشريفة هي وحدها قادرة على فهمها لأنهما من شاكلتها". روح الرسام-الفنان روح صبورة خالقة لكائن إبداعي جديد، ينطق ويحاكي الجمهور المثقف الذي يجيد فك رموز وألغاز اللوحة التي يمنحها الفنان جزءً من روحه ليتقاسم معها السعادة. ويمتاز فن الرسم بالدقة الرياضية وبالذوق الرفيع وبالصبر الذي لاحدود له في بناء أجزاء المخلوق الإبداعي بتناسق جميل يعكس مظاهر الجمال والكمال فيه، ليمارس دوره في الحياة مع أقرانه من الكائنات الإبداعية الأخرى. يرى ((هرمان هسه))"أن فن الرسم شيء مدهش حقاً، لأنه يمنح الفنان السعادة والصبر". إن سعادة الفنان بصناعة مخلوقه الإبداعي المفصح عن تفاصيل جماله المثير للأسئلة والألغاز الفنية الذي يشد الناظر إليه ويجبره على التحاور والتعليق الفني، سعادة لايمكن أن يفهمها غير الفنان المدرك لعملية المخاض النفسي والحسي الذي ينتاب الرسام-الفنان عند صناعة كل جزء من أجزاء مخلوقه الإبداعي ومن ثم ينفخ الروح فيه ليكون ناطقاً ومفصحاً عن تفاصيله الجمالية. يعتقد ((بتهوفن))"لايفصح الفنان عن سعادته بعمله الفني، أنه يخفيها في داخله". الرسام-الفنان يجسد الأحاسيس والجمال في اللوحة ويعبر عن قصيدة الشعر بكل أبعادها الحسية بالألوان، كل لون فيها نغمة حسية-موسيقية وكل خط منحي فيها يمثل بحراً من بحور الشعر. فن الرسم أصعب أنواع الفنون لأنه تعبير صامت عن أشياء صارخة، وتسليط الضوء على الزوايا المعتمة في الواقع وبحث متواصل للكشف عن تفاصيل غير مرئية استدلت الأيام والسنين والأحداث الستار عليها.